فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الخامسة:
ما المعنى في قوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ} نقول قوله تعالى: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} أي قربه وأدخله في قلوبكم ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم، وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئًا منها إذا حصل عنده وطال لبثه والإيمان كل يوم يزداد حسنًا، ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم، تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل، ولهذا قال في الأول: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} وقال ثانيًا: {وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ} كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم.
المسألة السادسة:
ما الفرق بين الأمور الثلاثة وهي الكفر والفسوق والعصيان؟ فنقول هذه أمور ثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل لأن الإيمان الكامل المزين، هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان أحدها: قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر} وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان والفسوق هو الكذب وثانيها: هو ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] سمي من كذب فاسقًا فيكون الكذب فسوقًا ثالثها: ما ذكره بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} [الحجرات: 11] فإنه يدل على أن الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم، وسنبين تفسيره إن شاء الله تعالى ورابعها: وجه معقول وهو أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل: فسقت الرطبة إذا خرجت، وغير ذلك لأن الفسوق هو الخروج زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة، لكن الخروج لا يكون له ظهور بالأمر القلبي، إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى، ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو، فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطئ أو متعمد، وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم، فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب، وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق، فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن، وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ثم قال تعالى: {والفسوق} يعني ما يظهر لسانكم أيضًا، ثم قال: {والعصيان} وهو دون الكل ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان، وقال بعض الناس الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة، والعصيان هو الصغيرة، وما ذكرناه أقوى.
ثم قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون}.
خطابًا مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيه معنى لطيف: وهو أن الله تعالى في أول الأمر قال: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} أي هو مرشد لكم فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين، فقال في الأول كفى النبي مرشدًا لكم ما تسترشدونه فأشفق عليهم وأرشدهم، وعلى هذا قوله: {الرشدون} أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم.
{فضلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}.
فيه مسائل:
المسألة الأولى:
نصب فضلًا لأجل أمور، إما لكونه مفعولًا له، وفيه وجهان أحدهما: أن العامل فيه هو الفعل الذي في قوله: {الرشدون} فإن قيل: كيف يجوز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولًا له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد؟ نقول لما كان الرشد توفيقًا من الله كان كأنه فعل الله فكأنه تعالى أرشدهم فضلًا، أي يكون متفضلًا عليهم منعمًا في حقهم والوجه الثاني: هو أن العامل فيه هو قوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر} [الحجرات: 7] فضلًا وقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون} [الحجرات: 7] جملة اعترضت بين الكلامين أو يكون العامل فعلًا مقدرًا، فكأنه قال تعالى جرى ذلك فضلًا من الله، وإما لكونه مصدرًا، وفيه وجهان أحدهما: أن يكون مصدرًا من غير اللفظ ولأن الرشد فضل فكأنه قال أولئك هم الراشدون رشدًا وثانيهما: هو أن يكون مصدرًا لفعل مضمر، كأنه قال حبب إليكم الإيمان وكره إليكم الكفر فأفضل فضلًا وأنعم نعمة، والقول بكونه منصوبًا على أنه مفعول مطلق وهو المصدر، أو مفعول له قول الزمخشري، وإما أن يكون فضلًا مفعولًا به، والفعل مضمرًا دل عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون} أي يبتغون فضلًا من الله ونعمة.
المسألة الثانية:
ما الفرق بين الفضل والنعمة في الآية؟ نقول فضل الله إشارة إلى ما عنده من الخير وهو مستغن عنه، والنعمة إشارة إلى ما يصل إلى العبد وهو محتاج إليه، لأن الفضل في الأصل ينبئ عن الزيادة، وعنده خزائن من الرحمة لا لحاجة إليها، ويرسل منها على عباده ما لا يبقون معه في ورطة الحاجة بوجه من الوجوه، والنعمة تنبئ عن الرأفة والرحمة وهو من جانب العبد، وفيه معنى لطيف وهو تأكيد الإعطاء، وذلك لأن المحتاج يقول للغني: أعطني ما فضل عنك وعندك، وذلك غير ملتفت إليه وأنابه قيامي وبقائي، فإذن قوله: {فَضْلًا مّنَ الله} إشارة إلى ما هو من جانب الله الغني، والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة، وهذا مما يؤكد قولنا فضلًا منصوب بفعل مضمر، وهو الابتغاء والطلب.
المسألة الثالثة:
ختم الآية بقوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فيه مناسبات عدة منها أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق، قال إن يشتبه على المؤمن كذب الفاسق فلا تعتمدوا على ترويجه عليكم الزور، فإن الله عليم، ولا تقولوا كما كان عادة المنافق لولا يعذبنا الله بما نقول، فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وفق حكمته وثانيها: لما قال الله تعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ} [الحجرات: 7] بمعنى لا يطيعكم، بل يتبع الوحي، قال فإن الله من كونه عليمًا يعلمه، ومن كونه حكيمًا يأمره بما تقتضيه الحكمة فاتبعوه ثالثها: المناسبة التي بين قوله تعالى: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وبين قوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} أي حبب بعلمه الإيمان لأهل الإيمان، واختار له من يشاء بحكمته رابعها: وهو الأقرب، وهو أنه سبحانه وتعالى قال: {فَضْلًا مّنَ الله وَنِعْمَةً} ولما كان الفضل هو ما عند الله من الخير المستغني عنه، قال تعالى هو عليم بما في خزائن رحمته من الخير، وكانت النعمة هو ما يدفع به حاجة العبد، قال هو حكيم ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} فلا تكذبوا؛ فإن الله يُعلمه أنباءكم فتفتضحون.
{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} أي لو تسارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر لنا لكم مشقة وإثم؛ فإنه لو قتل القومَ الذين سعى بهم الوليد بن عُقبة إليه لكان خطأ، ولَعَنَتَ مَن أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم.
ومعنى طاعة الرسول لهم: الاْئتمارُ بما يأمر به فيما يبلّغونه عن الناس والسماع منهم.
والعَنت الإثم؛ يقال: عنِت الرجل.
والعنت أيضًا الفجور والزنى؛ كما في سورة (النساء).
والعنت أيضًا الوقوع في أمر شاق؛ وقد مضى في آخر (براءة) القول في {عَنِتُّمْ} بأكثر من هذا.
{ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان} هذا خطاب للمؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يخبرون بالباطل؛ أي جعل الإيمان أحبّ الأديان إليكم.
{وَزَيَّنَهُ} بتوفيقه.
{فِي قُلُوبِكُمْ} أي حسّنه إليكم حتى اخترتموه.
وفي هذا ردّ على القدرية والإمامية وغيرهم، حسب ما تقدّم في غير موضع.
فهو سبحانه المنفرد بخلق ذوات الخلق وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا شريك له.
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} قال ابن عباس: يريد به الكذب خاصة.
وقاله ابن زيد.
وقيل: كل ما خرج عن الطاعة؛ مشتقٌ من فَسَقتِ الرُّطَبَةُ خرجت من قشرها.
والفأرة من جُحرها.
وقد مضى في (البقرة) القول فيه مستوفى.
والعصيان جمع المعاصي.
ثم انتقل من الخطاب إلى الخبر فقال: {أولئك} يعني هم الذين وفقهم الله فحبّب إليهم الإيمان وكرّه إليهم الكفر أي قبحه عندهم {هُمُ الراشدون} كقوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39].
قال النابعة:
يا دارَ مَيَّةَ بالعَلْياء فالسَّندِ ** أقْوَتْ وطال عليها سالِفُ الأمَدِ

والرَّشَد الاْستقامة على طريق الحق مع تَصَلُّب فيه؛ من الرَّشاد وهي الصخرة.
قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة وأنشد:
وغير مُقَلَّد ومُوَشّمات ** صَلِينَ الضّوءَ من صُمِّ الرشاد

{فَضْلًا مِّنَ الله وَنِعْمَةً} أي فعل الله ذلك بكم فضلًا؛ أي الفضل والنعمة، فهو مفعول له.
{والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {عَلِيمٌ} بما يصلحكم {حَكِيمٌ} في تدبيركم. اهـ.

.قال الألوسي:

{واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} عطف على ما قبله، و{إن} بما في حيزها سادّ مسدّ مفعولي {اعلموا} باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله عز وجل: {لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} أي لوقعتم في الجهد والهلاك فإنه حال من أحد الضميرين في {فيكُمْ} الضمير المستتر المرفوع وهو ضمير الرسول أو البارز المجرور وهو ضمير المخاطبين، وتقديم خبر أن للحضر المستتبع زيادة التوبيخ، وصيغة المضارع للاستمرار فلو لامتناع استمرار طاعته عليه الصلاة والسلام لهم في كثير مما يعن لهم من الأمور، وكون المراد استمرار الامتناع نظير ما قيل في قوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] من أن المراد استمرار النفي ليس بذاك، وفي الكلام إشعار بأنهم زينوا بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم الإيقاع بالحرث وقومه وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم.
فقيل: واعلموا أنه فيكم لا في غيركم كأنهم حسبوه لعدم تأدبهم وما بدر منهم الفرطة بين أظهر أقوام آخرين كائنًا على حال يجب عليكم تغييرها أو وأنتم على كذلك وهو ما تريدون من استتباع رأيه لرأيكم وطاعته لكم مع أن ذلك تعكيس وموجب لوقوعكم في العنت، وفيه مبالغات من أوجه: أحدها: إيثار {لَوْ} ليدل على الفرض والتقدير وأن ما بدر من من التزيين كان من حقه أن يفرض كما يفرض الممتنعات، والثاني: ما في العدول إلى المضارع من تصوير ما كانوا عليه وتهجينه مع التوبيخ بإرادة استمرار ما حقه أن يكون مفروضًا فضلًا عن الوقوع، والثالث: ما في العنت من الدلالة على أشد المحذور فإنه الكسر بعد الجبر والرمز الخفي على أنه ليس بأول بادرة.
والرابع: ما في تعميم الخطاب والحري به غير الكمل من التعريض ليكون أردع لمرتكبه وأزجر لغيره كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا تبينوا إن جاءكم فاسق ولا تكونوا أمثال هؤلاء ممن استفزه النبأ قبل تعرف صدقه ثم لا يقنعه ذلك حتى يريد أن يستتبع رأي من هو المتبوع على الإطلاق فيقع هو ويقع غيره في العنت والإرهاق واعلموا جلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفادوا عن أشباه هذه الهنات، وقوله عز وجل: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمان وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} استدراك على ما يقتضيه الكلام فإن {لَوْ يُطِيعُكُمْ} خطاب كما سمعت للبعض الغير الكمل عمم للفوائد المذكورة والمحبب إليهم الإيمان هم الكمل فكأنه قيل: ولكن الله حبب إلى بعضكم الإيمان وعدل عنه لنداء الصفة به، وعليه قول بعض المفسرين هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، والإشارة بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون} إليهم، وفيه نوع من الالتفات، والخطاب فيه للرسول صلى الله عليه وسلم كأنه تعالى يبصره عليه الصلاة والسلام ما هم فيه من سبق القدم في الرشاد أي إصابة الطريق السوي، فحاصل المعنى أنتم على الحال التي ينبغي لكم تغييرها وقد بدر منكم ما بدر ولكن ثم جمعا عما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبريء وإرادة أن يتبع الحق أهواءكم براء لأن الله تعالى حبب إليهم الإيمان الخ، وهذا أولى من جعل {لَوْ يُطِيعُكُمْ} الخ في معنى ما حبب إليهم الإيمان تغليظًا لأن من تصدى للإيقاع بالبريء بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وجسر على ارتكاب تلك العظيمة لم يكن محبوبًا إليه الإيمان وإن كان ذلك أيضًا سديد الشيوع التصرف في الأواخر في مثله، وجعله بعضهم استدراكًا ببيان عذرهم فيما بدر منهم، ومآل المعنى لم يحملكم على ما كان منكم اتباع الهوى ومحبة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم لآرائكم بل محبة الإيمان وكراهة الكفر هي الداعية لذلك، والمناسب لما بعد ما ذكرناه.
وجوز غير واحد من المعربين أن {لَوْ يُطِيعُكُمْ} استئناف على معنى أنه لما قيل {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} دالًا على أنهم جاهلون بمكانه عليه الصلاة والسلام مفرطون فيما يجب من تعظيم شأنه أعلى الله تعالى شأنه اتجه لهم أن يسألوا ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط وماذا ينتج من المضرة؟ فأجيبوا بما يصرح بالنتيجة لخفائها ويومئ إلى ما فيها من المعرة من وقوعهم في العنت بسبب استتباع من هو في علو المنصب اقتداء يتخطى أعلى المجرة، وهو حسن لولا أن {واعلموا} كلام من تتمة الأول كما يؤذن به العطف لا وارد تقريعًا على الاستقلال فيأبى التقدير المذكور لتعين موجب التفريط، وأيضًا يفوت التعريض وأن ذلك بادرة من بعضهم في قصة ابن عقبة ويتنافر الكلام، هذا {وَكَرَّهَ} يتعدى بنفسه إلى واحد وإذا شدد زاد له آخر لكنه ضمن في الآية معنى التبغيض فعومل معاملته وحسنه مقابلته لحبب أو نزل {إِلَيْكُمْ} منزلة مفعول آخر، و{الكفر} تغطية نعم الله تعالى بالجحود، و{الفسوق} الخروج عن القصد ومأخذه ما تقدم، {والعصيان} الامتناع عن الانقياد، وأصله من عصت النواة صلبت واشتدت، والكلام أعني قوله تعالى: {ولكن الله} الخ ثناء عليهم بما يردف التحبيب المذكور والتكريه من فعل الأعمال المرضية والطاعات والتجنب عن الأفعال القبيحة والسيآت على سبيل الكناية ليقع التقابل موقعه على ما سلف آنفًا، وقيل: الداعي لذلك ما يلزم على الظاهر من المدح بفعل الغير مع أن الكلام مسوق للثناء عليهم وهو في إيثارهم الإيمان وإعراضهم عن الكفر وأخويه لا في تحبيب الله تعالى الإيمان لهم وتكريهه سبحانه الكفر وما معه إليهم.
وأنت تعلم أن الثناء على صفة الكمال اختيارية كانت أولًا شائع في عرف العرب والعجم، والمنكر معاند على أن ذلك واقع على الجماد أيضًا، والمسلم الضروري أنه لا يمدح الرجل بما لم يفعله على أنه فعله، وإليه الإشارة في قوله تعالى: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} [آل عمران: 188] أما أنه لا يمدح به على أنه صفة له فليس بمسلم فلا تغفل.
{فَضْلًا مّنَ الله وَنِعْمَةً} تعليل للأفعال المستندة إليه عز وجل في قوله سبحانه: {ولكن الله حَبَّبَ} [الحجرات: 7] الخ وما في البين اعتراض؛ وجوز كونه تعليلًا للراشدين، وصح النصب على القول باشتراط اتحاد الفاعل أي من قام به الفعل وصدر عنه موجدًا له أولًا لما أن الرشد وقع عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه تبارك اسمه فإنه لو قيل مثلًا حبب إليكم الإيمان فضلًا منه وجعل كناية عن الرشد لصح فيحسن أن يقال: أولئك هم الراشدون فضلًا ويكون في قوة أولئك هم المحببون فضلًا أو لأن الرشد هاهنا يستلزم كونه تعالى شأنه مرشدًا إذ هو مطاوع أرشد، وهذا نظير ما قالوا من أن الإراءة تستلزم رؤية في قوله سبحانه: {يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12] فيتحد الفاعل ويصح النصب، وجوز كونه مصدرًا لغير فعله فهو منصوب إما بحبب أو بالراشدين فإن التحبيب والرشد من فضل الله تعالى وإنعامه، وقيل: مفعول به لمحذوف أي يبتغون فضلًا {والله عَلِيمٌ} مبالغ في العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل {حَكِيمٌ} يفعل كل ما يفعل من أفضال وأنعام وغيرهما بموجب الحكمة. اهـ.